الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} قرأ الجمهور {يَعْمُرُواْ} بفتح حرف المضارعة وضم الميم من عمر يعمر. وقرأ ابن السميفع بضم حرف المضارعة من أعمر يعمر: أي يجعلون لها من يعمرها. وقرأ ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن محيصن وسهم ويعقوب {مَسجد الله} الإفراد. وقرأ الباقون {مساجد} بالجمع، واختارها أبو عبيدة. قال النحاس: لأنها أعمّ، والخاص يدخل تحت العام، وقد يحتمل أن يراد بالجمع المسجد الحرام خاصة، وهذا جائز فيما كان من أسماء الأجناس كما يقال: فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرساً قال: وقد أجمعوا على الجمع في قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله} وروي عن الحسن البصري أنه تعالى إنما قال: {مساجد} والمراد: المسجد الحرام، لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر جميع المساجد. قال الفراء: العرب قد تضع الواحد مكان الجمع كقولهم: فلان كثير الدرهم وبالعكس، كقولهم فلان يجالس الملوك ولعله لم يجالس إلا ملكاً واحداً. والمراد بالعمارة إما المعنى الحقيقي أو المعنى المجازي، وهو ملازمته والتعبد فيه، وكلاهما ليس للمشركين، أما الأول: فلأنه يستلزم المنة على المسلمين بعمارة مساجدهم، وأما الثاني: فلكون الكفار لا عبادة لهم مع نهيهم عن قربان المسجد الحرام، ومعنى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} ما صح لهم وما استقام أن يفعلوا ذلك، و{على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} حال: أي ما كان لهم ذلك حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر، بإظهار ما هو كفر من نصب الأوثان والعبادة لها، وجعلها آلهة، فإن هذا شهادة منهم على أنفسهم بالكفر، وإن أبوا ذلك بألسنتهم، فكيف يجمعون بين أمرين متنافيين: عمارة المساجد التي هي من شأن المؤمنين، والشهادة على أنفسهم بالكفر التي ليست من شأن من يتقرّب إلى الله بعمارة مساجده. وقيل: المراد بهذه الشهادة قولهم في طوافهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك: تملكه وما ملك؛ وقيل: شهادتهم على أنفسهم بالكفر: أن اليهودي يقول هو يهودي، والنصراني يقول هو نصراني، والصابئ يقول هو صابئ، والمشرك يقول هو مشرك: {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم} التي يفتخرون بها، ويظنون أنها من أعمال الخير: أي بطلت ولم يبق لها أثر {وَفِى النار هُمْ خالدون} وفي هذه الجملة الإسمية مع تقديم الظرف المتعلق بالخبر تأكيد لمضمونها. ثم بين سبحانه من هو حقيق بعمارة المساجد فقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الآخر} وفعل ما هو من لوازم الإيمان من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة {وَلَمْ يَخْشَ} أحداً {إِلاَّ الله} فمن كان جامعاً بين هذه الأوصاف، فهو الحقيق بعمارة المساجد. لا من كان خالياً منها أو من بعضها، واقتصر على ذكر الصلاة والزكاة والخشية تنبيهاً بما هو من أعظم أمور الدين على ما عداه مما افترضه الله على عباده؛ لأن كل ذلك من لوازم الإيمان، وقد تقدّم الكلام في وجه جمع المساجد، وفي بيان ماهية العمارة، ومن جوّز الجمع بين الحقيقة والمجاز حمل العمارة هنا عليهما، وفي قوله: {فعسى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} حسم لأطماع الكفار في الانتفاع بأعمالهم، فإن الموصوفين بتلك الصفات إذا كان اهتداؤهم مرجوّاً فقط، فكيف بالكفار الذين لم يتصفوا بشيء من تلك الصفات. وقيل: «عسى» من الله واجبة. وقيل: هي بمعنى خليق، أي فخليق أن يكونوا من المهتدين. وقيل: إن الرجاء راجع إلى العباد. والاستفهام في {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام} للإنكار، والسقاية والعمارة مصدران كالسعاية والحماية، وفي الكلام حذف، والتقدير: أجعلتم أصحاب سقاية الحاج وعمارة المسجد، أو أهلهما {كَمَنْ ءامَنَ} حتى يتفق الموضوع والمحمول أو يكون التقدير في الخبر: أي جعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كعمل من آمن أو كإيمان من آمن. وقرأ ابن أبي وجرة السعدي، وابن الزبير، وسعيد بن جبير: «أجعلتم سقاة الحاج، وعمرة المسجد الحرام» جمع ساق وعامر. وعلى هذه القراءة لا يحتاج إلى تقدير محذوف، والمعنى: أن الله أنكر عليهم التسوية بين ما كان تعمله الجاهلية من الأعمال التي صورتها صورة الخير، وإن لم ينتفعوا بها وبين إيمان المؤمنين وجهادهم في سبيل الله، وقد كان المشركون يفتخرون بالسقاية والعمارة، ويفضلونهما على عمل المسلمين. فأنكر الله عليهم ذلك، ثم صرّح سبحانه بالمفاضلة بين الفريقين وتفاوتهم وعدم استوائهم فقال: {لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله} أي: لا تساوي تلك الطائفة الكافرة الساقية للحجيج العامرة للمسجد الحرام هذه الطائفة المؤمنة بالله واليوم الآخر المجاهدة في سبيله، ودلّ سبحانه بنفي الاستواء على نفي الفضيلة، التي يدّعيها المشركون، أي إذا لم تبلغ أعمال الكفار إلى أن تكون مساوية لأعمال المسلمين، فكيف تكون فاضلة عليها كما يزعمون، ثم حكم عليهم بالظلم وأنهم مع ظلمهم بما هم فيه من الشرك لا يستحقون الهداية من الله سبحانه، وفي هذا إشارة إلى الفريق المفضول. ثم صرّح بالفريق الفاضل فقال: {الذين آمنوا} إلى آخره: أي الجامعون بين الإيمان والهجرة والجهاد بالأموال والأنفس {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله} وأحق بما لديه من الخير من تلك الطائفة المشركة المفتخرة بأعمالها المحيطة الباطلة. وفي قوله: {عَندَ الله} تشريف عظيم للمؤمنين، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى المتصفين بالصفات المذكورة {هُمُ الفائزون} أي: المختصون بالفوز عند الله، ثم فسر الفوز بقوله: {يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ ورضوان وجنات لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} والتنكير في الرحمة والرضوان والجنات للتعظيم، والمعنى: أنها فوق وصف الواصفين وتصوّر المتصوّرين. والنعيم المقيم: الدائم المستمر الذي لا يفارق صاحبه، وذكر الأبد بعد الخلود تأكيد له، وجملة {إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} مؤكدة لما قبلها مع تضمنها للتعليل: أي أعطاهم الله سبحانه هذه الأجور العظيمة لكون الأجر الذي عنده عظيم، يهب منه ما يشاء لمن يشاء، وهو ذو الفضل العظيم. وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الآخر} فنفى المشركين من المسجد {مَنْ ءامَنَ بالله} يقول: من وحد الله وآمن بما أنزل الله {وَأَقَامَ الصلاة} يعني: الصلوات الخمس، {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله} يقول: لم يعبد إلا الله {فعسى أُوْلَئِكَ} يقول: أولئك هم المهتدون، كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79] يقول: إن ربك سيبعثك مقاماً محموداً، وهي الشفاعة، وكل «عسى» في القرآن فهي واجبة. وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والدارمي، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وابن المنذر، والبيهقي في سننه، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الآخر}» وقد وردت أحاديث كثيرة في استحباب ملازمة المساجد، وعمارتها والتردّد إليها للطاعات. وأخرج مسلم، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن النعمان بن بشير، قال: كنت عند منبر رسول الله في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل لله عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل جهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله فأستفتيه فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} إلى قوله: {لاَ يَهْدِى القوم الظالمين}. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} الآية، وذلك أن المشركين قالوا: عمارة بيت الله، وقيام على السقاية، خير ممن آمن وجاهد، فكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره، فذكر الله سبحانه استكبارهم وإعراضهم، فقال لأهل الحرم من المشركين: {قَدْ كَانَتْ ءايَتِى تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ على أعقابكم تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامرا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 66، 67] يعني: أنهم كانوا يستكبرون بالحرم. وقال {به سامراً} كانوا به يسمرون ويهجرون بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم، فخير الإيمان بالله والجهاد مع نبيّ الله على عمران المشركين البيت وقيامهم على السعاية، ولم يكن لينفعهم عند الله مع الشرك به، وإن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه قال الله: {لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} يعني: الذين زعموا أنهم أهل العمارة فسماهم ظالمين بشركهم، فلم تغن عنهم العمارة شيئاً، وفي إسناده العوفي وهو ضعيف. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: قال العباس حين أسر يوم بدر: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج ونفكّ العاني، فأنزل الله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} الآية: يعني: أن ذلك كان في الشرك، فلا أقبل ما كان في الشرك. وأخرج ابن مردويه، عنه، أيضاً في الآية، قال: نزلت في عليّ بن أبي طالب والعباس. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الشعبي، قال: تفاخر عليّ والعباس وشيبة في السقاية والحجابة فأنزل الله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} الآية، وقد روى معنى هذا من طرق.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} الخطاب للمؤمنين كافة، وهو حكم باق إلى يوم القيامة يدل على قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين، وقالت طائفة من أهل العلم: إنها نزلت في الحضّ على الهجرة ورفض بلاد الكفر، فيكون الخطاب لمن كان من المؤمنين بمكة وغيرها من بلاد العرب، نهوا بأن يوالوا الآباء والإخوة، فيكونون لهم تبعاً في سكنى البلاد الكفر إن استحبوا: أي أحبوا، كما يقال استجاب بمعنى أجاب، وهو في الأصل: طلب المحبة، وقد تقدّم تحقيق المقام في سورة المائدة في قوله تعالى: {ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء} [المائدة: 51] ثم حكم على من يتولى من استحب الكفر على الإيمان من الآباء والإخوان بالظلم. فدلّ ذلك على أن تولي من كان كذلك من أعظم الذنوب وأشدّها، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: {إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ} إلى آخره، والعشيرة: الجماعة التي ترجع إلى عقد واحد، وعشيرة الرجل: قرابته الأدنون، وهم الذين يعاشرونه، وهي اسم جمع. وقرأ أبو بكر وحماد «عشيراتكم» بالجمع. قال الأخفش: لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات. وإنما يجمعونها على عشائر. وقرأ الحسن «عشائركم». وقرأ الباقون {عشيرتكم} والاقتراف: الاكتساب، وأصله: اقتطاع الشيء من مكانه، والتركيب يدور على الدنو. والكاسب يدني الشيء من نفسه ويدخله تحت ملكه، والتجارة الأمتعة التي يشترونها ليربحوا فيها، والكساد عدم النفاق لفوات وقت بيعها بالهجرة ومفارقة الأوطان. ومن غرائب التفسير ما روي عن ابن المبارك أنه قال: إن المراد بالتجارة في هذه الآية البنات والأخوات، إذا كسدن في البيت لا يجدن لهنّ خاطباً، واستشهد لذلك بقول الشاعر: كسدن من الفقر في قومهن *** وقد زادهنّ مقامي كسادا وهذا البيت وإن كان فيه إطلاق الكساد على عدم وجود الخاطب لهنّ فليس فيه جواز إطلاق اسم التجارة عليهنّ. والمراد بالمساكن التي يرضونها: المنازل التي تعجبهم وتميل إليها أنفسهم، ويرون الإقامة فيها أحبّ إليهم من المهاجرة إلى الله ورسوله، و{أحبّ} خبر {كان}: أي كانت هذه الأشياء المذكورة في الآية أحبّ إليكم من الله ورسوله ومن الجهاد في سبيل الله {فَتَرَبَّصُواْ} أي: انتظروا {حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} فيكم، وما تقتضيه مشيئته من عقوبتكم، وقيل: المراد بأمر الله سبحانه: القتال. وقيل: فتح مكة وفيه بعد، فقد روى أن هذه السورة نزلت بعد الفتح. وفي هذا وعيد شديد، ويؤكده إبهام الأمر وعدم التصريح به، لتذهب أنفسهم كل مذهب وتتردّد بين أنواع العقوبات، {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} أي الخارجين عن طاعته، النافرين عن امتثال أوامره ونواهيه. وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، قال: أمروا بالهجرة فقال العباس بن عبد المطلب: أنا أسقي الحاج. وقال طلحة أخو بني عبد الدار: أنا أحجب الكعبة فلا نهاجر، فأنزلت {لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وإخوانكم} الآية. وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل، في هذه الآية قال: هي الهجرة. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة {اقترفتموها} قال: أصبتموها. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} قال: بالفتح في أمره بالهجرة، هذا كل قبل فتح مكة. وأخرج البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر الجراح قصده ابنه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} [المجادلة: 22] الآية، وهي تؤكد معنى هذه الآية، وقد تقدم بيان حكم الهجرة في سورة النساء.
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)} المواطن: جمع موطن، ومواطن الحرب: مقاماتها، والمواطن التي نصر الله المسلمين فيها هي: يوم بدر، وما بعده من المواطن التي نصر الله المسلمين على الكفار فيها قبل يوم حنين، {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} معطوف على {مواطن} بتقدير مضاف: إما في الأوّل وتقديره: في أيام مواطن، أو في الثاني، وتقديره: وموطن يوم حنين، لئلا يعطف الزمان على المكان. وردّ بأنه لا استبعاد في عطف الزمان على المكان، فلا يحتاج إلى تقدير. وقيل: إن {يوم حنين} منصوب بفعل مقدّر معطوف على {نَصَرَكُمُ} أي: ونصركم يوم حنين، ورجح هذا صاحب الكشاف، قال: وموجب ذلك أن قوله: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ} بدل من {يوم حنين}، فلو جعلت ناصبة هذا الظاهر لم يصح؛ لأن كثرتم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيراً في جميعها. وردّ بأن العطف لا يجب فيه تشارك المتعاطفين في جميع ما ثبت للمعطوف، كما تقول: جاءني زيد، وعمرو، مع قومه، أو في ثيابه أو على فرسه، وقيل إن: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} ليس ببدل من {يوم حنين}، بل منصوب بفعل مقدّر: أي اذكروا إذا أعجبتكم كثرتكم. وحنين: واد بين مكة والطائف، وانصرف على أنه اسم للمكان، ومن العرب من يمنعه على أنه اسم للبقعة، ومنه قول الشاعر: نصروا نبيهم وشدّوا أزره *** بحنين يوم تواكل الأبطال وإنما أعجب من أعجب من المسلمين بكثرتهم لأنهم كانوا اثني عشر ألفاً. وقيل: أحد عشر ألفاً، وقيل: ستة عشر ألفاً. فقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة، فوكلوا إلى هذه الكلمة، فلم تغن الكثرة شيئاً عنهم، بل انهزموا وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت معه طائفة يسيرة، منهم: عمه العباس وأبو سفيان بن الحارث، ثم تراجع المسلمون، فكان النصر والظفر. والإغناء: إعطاء ما يدفع الحاجة، أي لم تعطكم الكثرة شيئاً يدفع حاجتكم، ولم تفدكم. قوله: {بِمَا رَحُبَتْ} الرحب بضم الراء: السعة، والرحب بفتح الراء: المكان الواسع، والباء بمعنى «مع»، و«ما» مصدرية، ومحل الجار والمجرور النصب على الحال. والمعنى: أن الأرض مع كونها واسعة الأطراف ضاقت عليهم بسبب ما حلّ بهم من الخوف والوجل؛ وقيل إن الباء بمعنى «على»: أي على رحبها {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} أي: انهزمتم حال كونكم مدبرين: أي مولين أدباركم، جاعلين لها إلى جهة عدوّكم. قوله: {ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} أي: أنزل ما يسكنهم، فيذهب خوفهم حتى وقع منهم الاجتراء على قتال المشركين بعد أن ولوا مدبرين، والمراد بالمؤمنين: هم الذين لم ينهزموا، وقيل: الذين انهزموا. والظاهر: جميع من حضر منهم؛ لأنهم ثبتوا بعد ذلك وقاتلوا وانتصروا. قوله: {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} هم الملائكة. وقد اختلف في عددهم على أقوال: قيل: خمسة آلاف. وقيل: ثمانية آلاف، وقيل: ستة عشر ألفاً. وقيل: غير ذلك، وهذا لا يعرف إلا من طريق النبوّة. واختلفوا أيضاً هل قاتلت الملائكة في هذا اليوم أم لا؟ وقد تقدم أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر، وأنهم إنما حضروا في غير يوم بدر لتقوية قلوب المؤمنين، وإدخال الرعب في قلوب المشركين {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} بما وقع عليهم من القتل والأسر وأخذ الأموال وسبي الذرية، والإشارة بقوله: {وَذَلِكَ} إلى التعذيب المفهوم من عذب، وسمي ما حلّ بهم من العذاب في هذا اليوم جزاء مع أنه غير كاف بل لا بدّ من عذاب الآخرة مبالغة في وصف ما وقع عليهم وتعظيماً له: {ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَاء} أي: من بعد هذا التعذيب على من يشاء ممن هداه منهم إلى الإسلام {والله غَفُورٌ} يغفر لمن أذنب، فتاب {رَّحِيمٌ} بعباده يتفضل عليهم بالمغفرة لما اقترفوه. وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، قال: حنين ما بين مكة والطائف، قاتل نبيّ الله هوازن وثقيف، وعلى هوازن مالك بن عوف، وعلى ثقيف عبد ياليل بن عمرو الثقفي. وأخرج ابن المنذر، عن الحسن قال: لما اجتمع أهل مكة وأهل المدينة قالوا: الآن نقاتل حين اجتمعنا، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا، وما أعجبهم من كثرتهم، فالتقوا فهزموا حتى ما يقوم أحد منهم على أحد حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي أحياء العرب: «إليّ إليّ»، فوالله ما يعرج عليه أحد حتى أعرى موضعه، فالتفت إلى الأنصار وهم ناحية فنادهم: «يا أنصار الله وأنصار رسوله، إليّ عباد الله أنا رسول الله»، فجثوا يبكون وقالوا: يا رسول الله، وربّ الكعبة إليك والله، فنكسوا رءوسهم يبكون وقدّموا أسيافهم يضربون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى فتح الله عليهم. وأخرج البيهقي في الدلائل، عن الربيع أن رجلاً قال يوم حنين: لن نغلب من قلة، فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} قال الربيع: وكانوا اثني عشر ألفاً، منهم ألفان من أهل مكة. وأخرج الطبراني، والحاكم وصححه، وأبو نعيم، والبيهقي في الدلائل، عن ابن مسعود قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلاً من المهاجرين والأنصار. فكنا على أقدامنا نحواً من ثمانين قدماً ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء يمضي قدماً، فقال: «ناولني كفاً من تراب»، فناولته فضرب به وجوههم فامتلأت أعينهم تراباً، وولى المشركون أدبارهم. ووقعة حنين مذكورة في كتب السير والحديث بطولها وتفاصيلها، فلا نطول بذلك. وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله: {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} قال: هم الملائكة {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} قال: قتلهم بالسيف. وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد ابن جبير، قال: في يوم حنين أمدّ الله رسوله بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، ويومئذ سمى الله الأنصار مؤمنين قال: فأنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين. وأخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي عن جبير بن مطعم، قال: رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود أقبل من السماء حتى سقط بين القوم، فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي، لم أشك أنها الملائكة، ولم تكن إلا هزيمة القوم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} النجس مصدر لا يثنى ولا يجمع، يقال رجل نجس، وامرأة نجس، ورجلان نجس، وامرأتان نجس، ورجال نجس، ونساء نجس. ويقال: نجس ونجس بكسر الجيم وضمها. ويقال: نجْس بكسر النون وسكون الجيم وهو تخفيف من المحرك. قيل: لا تستعمل إلا إذا قيل معه رجس؛ وقيل ذلك أكثريّ لا كليّ. و{المشركون} مبتدأ، وخبره المصدر، مبالغة في وصفهم بذلك حتى كأنهم عين النجاسة، أؤ على تقدير مضاف: أي ذوو نجس؛ لأن معهم الشرك وهو بمنزلة النجس. وقال قتادة ومعمر وغيرهما: إنهم وصفوا بذلك لأنهم لا يتطهرون، ولا يغتسلون، ولا يتجنبون النجاسات. وقد استدل بالآية من قال بأن المشرك نجس الذات، كما ذهب إليه بعض الظاهرية والزيدية. وروي عن الحسن البصري، وهو محكيّ عن ابن عباس. وذهب الجمهور من السلف والخلف ومنهم أهل المذاهب الأربعة إلى أن الكافر ليس بنجس الذات؛ لأن الله سبحانه أحلّ طعامهم، وثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك من فعله، وقوله، ما يفيد عدم نجاسة ذواتهم، فأكل في آنيتهم، وشرب منها، وتوضأ فيها، وأنزلهم في مسجده. قوله: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام} الفاء للتفريع، فعدم قربانهم للمسجد الحرام متفرّع على نجاستهم. والمراد بالمسجد الحرام: جميع الحرم، روي ذلك عن عطاء، فيمنعون عنده من جميع الحرم، وذهب غيره من أهل العلم إلى أن المراد المسجد الحرام نفسه، فلا يمنع المشرك من دخول سائر الحرم. وقد اختلف أهل العلم في دخول المشرك غير المسجد الحرام من المساجد؛ فذهب أهل المدينة إلى منع كل مشرك عن كل مسجد. وقال الشافعي: الآية عامة في سائر المشركين خاصة في المسجد الحرام، فلا يمنعون من دخول غيره من المساجد. قال ابن العربي: وهذا جمود منه على الظاهر؛ لأن قوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة، ويجاب عنه بأن هذا القياس مردود بربطه صلى الله عليه وسلم لثمامة بن أثال في مسجده، وإنزال وفد ثقيف فيه. وروي عن أبي حنيفة مثل قول الشافعي، وزاد أنه يجوز دخول الذمي سائر المساجد من غير حاجة، وقيده الشافعي بالحاجة. وقال قتادة: إنه يجوز ذلك للذميّ دون المشرك. وروى عن أبي حنيفة أيضاً أنه يجوز لهم دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد، ونهى المشركين عن أن يقربوا المسجد الحرام هو نهي المسلمين عن أن يمكنوهم من ذلك، فهو من باب قولهم: لا أرينك هاهنا. قوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} فيه قولان: أحدهما: أنه سنة تسع، وهي التي حج فيها أبو بكر على الموسم. الثاني: أنه سنة عشر قاله قتادة، قال ابن العربي: وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ، ومن العجب أن يقال: إنه سنة تسع، وهو العام الذي وقع فيه الأذان، ولو دخل غلام رجل داره يوماً فقال له مولاه: لا تدخل هذه الدار بعد يومك، لم يكن المراد اليوم الذي دخل فيه. انتهى. ويجاب عنه بأن الذي يعطيه مقتضى اللفظ هو خلاف ما زعمه، فإن الإشارة بقوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} إلى العام المذكور قبل اسم الإشارة وهو عام النداء، وهكذا في المثال الذي ذكره، المراد النهي عن دخولها بعد يوم الدخول الذي وقع فيه الخطاب، والأمر ظاهر لا يخفى، ولعله أراد تفسير ما بعد المضاف إلى عامهم ولا شك أنه عام عشر، وأما تفسير العام المشار إليه بهذا، فلا شك ولا ريب أنه عام تسع، وعلى هذا يحمل قول قتادة. وقد استدلّ من قال بأنه يجوز للمشركين دخول المسجد الحرام وغيره من المساجد بهذا القيد، أعني قوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} قائلاً إن النهي مختصّ بوقت الحج والعمرة، فهم ممنوعون عن الحج والعمرة فقط، لا عن مطلق الدخول. ويجاب عنه بأن ظاهر النهي عن القربان بعد هذا العام يفيد المنع من القربان في كل وقت من الأوقات الكائنة بعده، وتخصيص بعضها بالجواز يحتاج إلى مخصص. قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} العيلة: الفقر، يقال: عال الرجل يعيل: إذا افتقر، قال الشاعر: وما يدري الفقير متى غناه *** وما يدري الغني متى يعيل وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود «عايلة» وهو مصدر: كالقايلة والعافية والعاقبة؛ وقيل: معناه: خصلة شاقة، يقال عالني الأمر يعولني: أي شقّ عليّ واشتدّ. وحكى ابن جرير الطبري أنه يقال: عال يعول: إذا افتقر. وكان المسلمون لما منعوا المشركين من الموسم وهم كانوا يجلبون إليه الأطعمة والتجارات، قذف الشيطان في قلوبهم الخوف من الفقر، وقالوا: من أين نعيش؟ فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله. قال الضحاك: ففتح الله عليهم باب الجزية من أهل الذمة بقوله: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} الآية. وقال عكرمة: أغناهم بإدرار المطر والنبات وخصب الأرض، وأسلمت العرب فحملوا إلى مكة ما أغناهم الله به. وقيل: أغناهم بالفيء، وفائدة التقييد بالمشيئة: التعليم للعباد بأن يقولوا ذلك في كل ما يتكلمون به، مما له تعلق بالزمن المستقبل، ولئلا يفتروا عن الدعاء والتضرّع {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بأحوالكم {حَكِيمٌ} في إعطائه ومنعه، ما شاء كان ومالم يشأ لم يكن. قوله: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} الآية، فيه الأمر بقتال من جمع بين هذه الأوصاف. قال أبو الوفاء بن عقيل: إن قوله: {قَاتَلُواْ} أمر بالعقوبة، ثم قال: {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} فبين الذنب الذي توجبه العقوبة، ثم قال: {وَلاَ باليوم الآخر} فأكد الذنب في جانب الاعتقاد، ثم قال: {وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} فيه زيادة للذنب في مخالفة الأعمال، ثم قال: {وَلاَ يَدِينُونَ دِيِنَ الحق} فيه إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة، والأنفة عن الاستسلام، ثم قال: {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} تأكيد للحجة عليهم؛ لأنهم كانوا يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، ثم قال: {حتى يُعْطُواْ الجزية} فبيّن الغاية التي تمتد إليها العقوبة. انتهى. قوله: {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} بيان للموصول مع ما في حيزه وهم أهل التوراة والإنجيل. قوله: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ} الجزية وزنها فعلة من جزى يجزي: إذا كافأ عما أسدي إليه، فكأنهم أعطوها جزاء عما منحوا من الأمن. وقيل: سميت جزية؛ لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه: أي يقضوه، وهي في الشرع: ما يعطيه المعاهد على عهده، و{عَن يَدٍ} في محل نصب على الحال. والمعنى: عن يد مواتية غير ممتنعة. وقيل: معناه: يعطونها بأيديهم غير مستنيبين فيها أحداً. وقيل: معناه: نقد غير نسيئة. وقيل: عن قهر. وقيل: معناه: عن إنعام منكم عليهم؛ لأن أخذها منهم نوع من أنواع الإنعام عليهم. وقيل: معناه: مذمومون. وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم الشافعي، وأحمد، أبو حنيفة، وأصحابه والثوري، وأبو ثور، إلى أنها لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب. وقال الأوزاعي ومالك: إن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الكفرة كائناً من كان، ويدخل في أهل الكتاب على القول الأوّل: المجوس. قال ابن المنذر: لا أعلم خلافاً في أن الجزية تؤخذ منهم. واختلف أهل العلم في مقدار الجزية. فقال عطاء: لا مقدار لها. وإنما تؤخذ على ما صولحوا عليه، وبه قال يحيى بن آدم، وأبو عبيد، وابن جرير إلا أنه قال: أقلها دينار، وأكثرها لا حدّ له. وقال الشافعي: دينار على الغنيّ والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء، وبه قال أبو ثور. قال الشافعي: وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز، وإذا زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم. وقال مالك: إنها أربعة دنانير على أهل الذهب. وأربعون درهماً على أهل الورق، الغنيّ والفقير سواء، ولو كان مجوسياً لا يزيد ولا ينقص. وقال أبو حنيفة وأصحابه، ومحمد بن الحسن، وأحمد بن حنبل: اثنا عشر، وأربعة وعشرون، وثمانية وأربعون. والكلام في الجزية مقرّر في مواطنه، والحق من هذه الأقوال قد قرّرناه في شرحنا للمنتقى وغيره من مؤلفاتنا. قوله: {وَهُمْ صاغرون} في محل نصب على الحال، والصغار: الذالّ. والمعنى: إن الذميّ يعطى الجزية حال كونه صاغراً، قيل: وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب، ويسلمها وهو قائم، والمتسلم قاعد. وبالجملة ينبغي للقابض للجزية أن يجعل المسلم لها حال قبضها صاغراً ذليلاً. وقد أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله، في قوله: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} الآية قال: إلا أن يكون عبداً أو أحداً من أهل الذمة. وقد روي مرفوعاً من وجه آخرج أخرجه ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل مسجدنا هذا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمكم» قال ابن كثير: تفرّد به أحمد مرفوعاً. والموقوف: أصح. وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم بالطعام يتجرون به، فلما نهوا عن أن يأتوا البيت. قال المسلمون: فمن أين لنا الطعام؟ فأنزل الله {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَاء} قال: فأنزل الله عليهم المطر، وكثر خيرهم حين ذهب المشركون عنهم. وأخرج ابن مردويه، عنه، قال: فأغناهم الله من فضله، وأمرهم بقتال أهل الكتاب. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة، في قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} قال: الفاقة. وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، في قوله: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} قال: بالجزية. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن الضحاك مثله. وأخرج نحوه عبد الرزاق عن قتادة. وأخرج أبو الشيخ، عن الحسن، في قوله: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} قال: قذر. وأخرج أبو الشيخ عنه، أيضاً قال: من صافحهم فليتوضأ. وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صافح مشركاً فليتوضأ أو ليغسل كفيه» وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبهيقي في سننه، عن مجاهد، في قوله: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} قال: نزلت هذه الآية حين أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بغزوة تبوك. وأخرج ابن المنذر، عن ابن شهاب، قال: نزلت في كفار قريش والعرب {وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} وأنزلت في أهل الكتاب: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} الآية إلى قوله: {حتى يُعْطُواْ الجزية}، فكان أول من أعطى الجزية أهل نجران. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، في قوله: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} يعني: الذين لا يصدّقون بتوحيد الله {وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} يعني الخمر والحرير {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق} يعني: دين الإسلام {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صاغرون} يعني: مذللون. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {عَن يَدٍ} قال: عن قهر. وأخرج ابن أبي حاتم، عن سفيان بن عيينة، في قوله: {عَن يَدٍ} قال: من يده ولا يبعث بها غيره. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي سنان في قوله: {عَن يَدٍ} قال: عن قدرة. وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: {وَهُمْ صاغرون} قال: يمشون بها متلتلين. وأخرج ابن أبي حاتم، عنه، قال: يلكزون. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن سلمان، في الآية قال: غير محمودين.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} قوله: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ عَبْدُ الله} كلام مبتدأ لبيان شرك أهل الكتابين، و{عزير} مبتدأ و{ابن الله} خبره، وقد قرأ عاصم والكسائي {عزير} بالتنوين، وقرأ الباقون بترك التنوين لاجتماع العجمة والعلمية فيه. ومن قرأ بالتنوين فقد جعله عربياً؛ وقيل: إن سقوط التنوين ليس لكونه ممتنعاً بل لاجتماع الساكنين، ومنه قراءة من قرأ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد} [الإخلاص: 1، 2]. قال أبو عليّ الفارسي: وهو كثير في الشعر، وأنشد ابن جرير الطبري: لتجديني بالأمير برّا *** وبالقناة لامرا مكرّاً إذا غطيت السلمى فرّاً وظاهر قوله: {وَقَالَتِ اليهود} أن هذه المقالة لجميعهم. وقيل: هو لفظ خرج على العموم، ومعناه: الخصوص لأنه لم يقل ذلك إلا البعض منهم. وقال النقاش: لم يبق يهودي يقولها؟ بل قد انقرضوا. وقيل: إنه قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم جماعة منهم، فنزلت الآية متضمنة لحكاية ذلك عن اليهود؛ لأن قول بعضهم لازم لجميعهم. قوله: {وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله} قالوا هذا لما رأوا من إحيائه الموتى مع كونه من غير أب، فكان ذلك سبباً لهذه المقالة، والأولى أن يقال: إنهم قالوا هذه المقالة لكون في الإنجيل وصفه تارة بابن الله وتارة بابن الإنسان، كما رأينا ذلك في مواضع متعددة من الإنجيل، ولم يفهموا أن ذلك لقصد التشريف والتكريم، أو لم يظهر لهم أن ذلك من تحريف سلفهم لغرض من الأغراض الفاسدة. قيل: وهذه المقالة إنما هي لبعض النصارى لا لكلهم. قوله: {ذلك قَوْلُهُم بأفواههم} الإشارة إلى ما صدر عنهم من هذه المقالة الباطلة. ووجه قوله بأفواههم مع العلم بأن القول لا يكون إلا الفم. بأن هذا القول لما كان ساذجاً ليس فيه بيان، ولا عضده برهان، كان مجرّد دعوى، لا معنى تحتها فارغة صادرة عنهم صدور المهملات التي ليس فيها إلا كونها خارجة من الأفواه، غير مفيدة لفائدة يعتدّ بها. وقيل: إن ذكر الأفواه لقصد التأكيد، كما في: كتبت بيدي ومشيت برجلي، ومنه قوله تعالى: {يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79]. وقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]. وقال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه لم يذكر قولاً مقروناً بذكر الأفواه والألسن، إلا وكان قولاً زوراً كقوله: {يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167]، وقوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5]، وقوله: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11]. قوله: {يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ} المضاهاة: المشابهة، قيل: ومنه قول العرب امرأة ضهياء، وهي التي لا تحيض لأنها شابهت الرجال. قال أبو عليّ الفارسي: من قال: {يضاهئون} مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء فقوله خطأ؛ لأن الهمزة في ضاهأ أصلية، وفي ضهياء زائدة كحمراء، وأصله يضاهئون وامرأة ضهياء. ومعنى مضاهاتهم لقول الذين كفروا فيه أقوال لأهل العلم: الأوّل: أنهم شابهوا بهذه المقالة عبدة الأوثان في قولهم: واللات والعزى ومناة بنات الله. القول الثاني: أنهم شابهوا قول من يقول من الكافرين: إن الملائكة بنات الله، الثالث: أنهم شابهوا أسلافهم القائلين بأن عزير ابن الله وأن المسيح ابن الله. قوله: {قاتلهم الله} دعاء عليهم بالهلاك؛ لأن من قاتله الله هلك، وقيل: هو تعجب من شناعة قولهم. وقيل: معنى قاتلهم الله: لعنهم الله، ومنه قول أبان بن تغلب: قاتلها الله تلحاني وقد علمت *** أني لنفسي إفسادي وإصلاحي وحكى النقاش أن أصل قاتل الله: الدعاء. ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشرّ وهم لا يريدون الدعاء. وأنشد الأصمعي: يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني *** وأخبر الناس أني لا أباليها {أنى يُؤْفَكُونَ} أي: كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل. قوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله} الأحبار: جمع حبر. وهو الذي يحسن القول، ومنه ثوب محبر. وقيل: جمع حبر بكسر الحاء. قال يونس: لم أسمعه إلا بكسر الحاء. وقال الفراء: الفتح والكسر لغتان، وقال ابن السكيت: الحبر بالكسر العالم، والحبر بالفتح العالم. والرهبان: جمع راهب مأخوذ من الرهبة، وهم علماء النصارى كما أن الأحبار علماء اليهود. ومعنى الآية: أنهم لما أطاعوهم فيما يأمرونهم به، وينهونهم عنه كانوا بمنزلة المتخذين لهم أرباباً، لأنهم أطاعوهم كما تطاع الأرباب، قوله: {والمسيح ابن مَرْيَمَ} معطوف على رهبانهم: أي اتخذه النصارى رباً معبوداً، وفيه إشارة إلى أن اليهود لم يتخذوا عزيراً رباً معبوداً. وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عن التقليد في دين الله، وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدى بقوله ويستنّ بسنته من علماء هذه الأمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص، وقامت به حجج الله وبراهينه، ونطقت به كتبه وأنبياؤه، هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، للقطع بأنهم لم يعبدوهم بل أطاعوهم، وحرّموا ما حرّموا، وحللوا ما حللوا، وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة، وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة، والتمرة بالتمرة، والماء بالماء، فيا عباد الله، ويا أتباع محمد بن عبد الله، ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانباً، وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله لهم بهما وطلبه منهم للعمل بما دلا عليه وأفاده. فعلتم بما جاءوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق، ولم تعضد بعضد الدين، ونصوص الكتاب والسنة، تنادي بأبلغ نداء، وتصوّت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ويباينه، فأعرتموهما آذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وأفهاماً مريضة، وعقولاً مهيضة، وأذهاناً كليلة، وخواطر عليلة، وأنشدتم بلسان الحال: وما أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشد فدعوا- أرشدكم الله وإياي- كتباً كتبها لكم الأموات من أسلافكم، واستبدلوا بها كتاب الله، خالقهم وخالقكم، ومتعبدهم ومتعبدكم، ومعبودهم ومعبودكم، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم وما جاؤوكم به من الرأي بأقوال إمامكم وإمامهم، وقدوتكم وقدوتهم، وهو الإمام الأوّل: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. دعوا كل قول عند قول محمد *** فما آبن في دينه كمخاطر اللهم هادي الضالّ، مرشد التائه، موضح السبيل، اهدنا إلى الحق وأرشدنا إلى الصواب، وأوضح لنا منهج الهداية. قوله: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا} هذه الجملة في محل نصب على الحال: أي اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً، والحال: أنهم ما أمروا إلا بعبادة الله وحده، أو ما أمر الذين اتخذوهم أرباباً من الأحبار والرهبان إلا بذلك، فكيف يصلحون لما أهلوهم له من اتخاذهم أرباباً. قوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} صفة ثانية لقوله {إلها} {سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تنزيهاً له عن الإشراك في طاعته وعبادته. قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم} هذا كلام يتضمن ذكر نوع آخر من أنواع ضلالهم وبعدهم عن الحق، وهو ما راموه من إبطال الحق بأقاويلهم الباطلة، التي هي مجرّد كلمات ساذجة، ومجادلات زائفة، وهذا تمثيل لحالهم في محاولة إبطال دين الحق، ونبوّة نبيّ الصدق، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم قد أنارت به الدنيا، وانقشعت به الظلمة، ليطفئه ويذهب أضواءه {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} أي: دينه القويم. وقد قيل: كيف دخلت إلا الاستثنائية على يأبى، ولا يجوز كرهت أو بغضت إلا زيداً. قال الفراء: إنما دخلت لأن في الكلام طرفاً من الجحد. وقال الزجاج: إن العرب تحذف مع «أبى»، والتقدير: ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره. وقال علي بن سليمان: إنما جاز هذا في أبى، لأنها منع أو امتناع فضارعت النفي، قال النحاس: وهذا أحسن. كما قال الشاعر: وهل لي أمّ غيرها إن تركتها *** أبى الله إلا أن أكون لها ابنا وقال صاحب الكشاف: إن أبر قد أجرى مجرى لم يرد: أي ولا يريد إلا أن يتمّ نوره. قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} معطوف على جملة قبله مقدرة: أي أبى الله إلا أن يتمّ نوره، ولو لم يكره الكافرون ذلك، ولو كرهوا، ثم أكد هذا بقوله: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى} أي: بما يهدي به الناس من البراهين والمعجزات، والأحكام التي شرعها الله لعباده، {وَدِينِ الحق} وهو: الإسلام، {لِيُظْهِرَهُ} أي: ليظهر رسوله، أو دين الحق بما اشتمل عليه من الحجج والبراهين، وقد وقع ذلك ولله الحمد {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} الكلام فيه كالكلام في {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} كما قدّمنا ذلك. وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس، قال: أتى رسول الله سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وأبو أنس، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك وقت تركت قبلتنا وأنت لا تزعم عزير ابن الله؟ فأنزل الله {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} الآية. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عنه، قال: كنّ نساء بني إسرائيل يجتمعن بالليل فيصلين ويعتزلن ويذكرن ما فضل الله به بني إسرائيل وما أعطاهم، ثم سلط عليهم شرّ خلقه بختنصر، فحرق التوراة وخرّب بيت المقدس، وعزير يومئذ غلام، فقال عزير: أو كان هذا؟ فلحق بالجبال والوحش، فجعل يتعبد فيها، وجعل لا يخالط الناس، فإذا هو ذات يوم بامرأة عند قبر وهي تبكي، فقال: يا أمه اتقي الله واحتسبي واصبري، أما تعلمين أن سبيل الناس إلى الموت؟ فقالت: يا عزير أتنهاني أن أبكي، وأنت قد خلفت بني إسرائيل، ولحقت بالجبال والوحش؟ ثم قالت: إني لست بامرأة ولكني الدنيا، وإنه سينبع في مصلاك عين وتنبت شجرة، فاشرب من ماء العين وكل من ثمر الشجرة، فإنه سيأتيك ملكان فاتركهما يصنعان ما أرادا، فلما كان من الغد نبعت العين ونبتت الشجرة، فشرب من ماء العين وأكل من ثمرة الشجرة، وجاء ملكان ومعهما قارورة فيها نور فأوجراه ما فيها فألهمه الله التوراة، فجاء فأملاه على الناس، فعند ذلك قالوا عزير ابن الله، تعالى الله عن ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم، عنه، أيضاً فذكر قصة وفيها: أن عزير سأل الله بعد ما أنسى بني إسرائيل التوراة ونسخها من صدورهم، أن يردّ الذي نسخ من صدره، فبينما هو يصلي نزل نور من الله عزّ وجلّ فدخل جوفه، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة، فأذن في قومه فقال: يا قوم قد آتاني الله التوراة وردّها إليّ. وأخرج أبو الشيخ، عن كعب، قال: دعا عزير ربه أن يلقي التوراة كما أنزل على موسى في قلبه، فأنزلها الله عليه، فبعد ذلك قالوا: عزير ابن الله. وأخرج ابن مردويه، وابن عساكر، عن ابن عباس، قال: ثلاث أشك فيهن: فلا أدري عزير كان نبياً أم لا؟ ولا أدري ألعن تبع أم لا؟ قال: ونسيت الثالثة. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه، في قوله: {يضاهئون} قال: يشبهون. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، في قوله: {قاتلهم الله} قال: لعنهم الله، وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن. وأخرج ابن سعد، وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن عدي بن حاتم، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في سورة براءة {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله} فقال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرّموا عليهم شيئاً حرّموه» وأخرجه أيضاً أحمد وابن جرير. وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في سننه، عن أبي البحتري قال: سأل رجل حذيفة فقال: أرأيت قوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله} أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرّموا عليهم شيئاً حرّموه. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الضحاك، قال: أحبارهم: قراؤهم، ورهبانهم: علماؤهم. وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، قال: الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى. وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ مثله. وأخرج أيضاً عن الفضيل بن عياض قال: الأحبار: العلماء، والرهبان: العباد. وأخرج أيضاً عن السديّ في قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم} قال: يريدون أن يطفئوا الإسلام بأقوالهم. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك في قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم} يقول: يريدون أن يهلك محمد وأصحابه. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة، في الآية قال: هم اليهود والنصارى. وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى} يعني: بالتوحيد والإسلام والقرآن.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} لما فرغ سبحانه من ذكر حال أتباع الأحبار والرهبان المتخذين لهم أرباباً ذكر حال المتبوعين فقال: {إِنَّ كَثِيراً مّنَ الأحبار} إلى آخره، ومعنى أكلهم لأموال الناس بالباطل: أنهم يأخذونها بالوجوه الباطلة كالرشوة، وأثبت هذا للكثير منهم؛ لأن فيهم من لم يلتبس بذلك، بل بقي على ما يوجبه دينه من غير تحريف ولا تبديل، ولا ميل إلى حطام الدنيا، ولقد اقتدى بهؤلاء الأحبار والرهبان من علماء الإسلام من لا يأتي عليه الحصر في كل زمان، فالله المستعان، قوله: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي: عن الطريق إليه وهو دين الإسلام، أو عن ما كان حقاً في شريعتهم قبل نسخها بسبب أكلهم لأموال الناس بالباطل. قوله: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} قيل: هم المتقدّم ذكرهم من الأحبار والرهبان، وإنهم كانوا يصنعون هذا الصنع. وقيل: هم من يفعل ذلك من المسلمين، والأولى حمل الآية على عموم اللفظ، فهو أوسع من ذلك، وأصل الكنز في اللغة: الضم والجمع، ولا يختص بالذهب والفضة. قال ابن جرير: الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها. انتهى. ومنه ناقة كناز: أي مكتنزة اللحم، واكتنز الشيء: اجتمع. واختلف أهل العلم في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزاً أم لا؟ فقال قوم: هو كنز، وقال آخرون: ليس بكنز. ومن القائلين بالقول الأوّل: أبو ذر. وقيده بما فضل عن الحاجة. ومن القائلين بالقول الثاني: عمر بن الخطاب، وابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأبو هريرة، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم، وهو الحق لما سيأتي من الأدلة المصرحة بأن ما أديت زكاته فليس بكنز. قوله: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} اختلف في وجه إفراد الضمير مع كون المذكور قبله شيئين، هما: الذهب والفضة، فقال ابن الأنباري: إنه قصد إلى الأعمّ الأغلب، وهو الفضة قال: ومثله قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة: 45] ردّ الكناية إلى الصلاة لأنها أعمّ، ومثله قوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] أعاد الضمير إلى التجارة؛ لأنها الأهمّ. وقيل: إن الضمير راجع إلى الذهب والفضة معطوفة عليه، والعرب تؤنث الذهب وتذكره. وقيل: إن الضمير راجع إلى الكنوز المدلول عليها بقوله: {يَكْنِزُونَ} وقيل: إلى الأموال. وقيل: للزكاة، وقيل: إنه اكتفى بضمير أحدهما عن ضمير الآخر مع فهم المعنى، وهو كثير في كلام العرب، وأنشد سيبويه: نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راض والرأي مختلف ولم يقل: راضون، ومثله قول الآخر: رماني بأمر كنت منه ووالدي *** برياً ومن أجل الطوى رماني ولم يقل: بريين، ومثله قول حسان: إن شرخ الشباب والشعر الأس *** ود ما لم يعاض كان جنونا ولم يقل: يعاضا. وقيل: إن إفراد الضمير من باب الذهاب إلى المعنى دون اللفظ؛ لأن كل واحد من الذهب والفضة جملة وافية، وعدّة كثيرة، ودنانير ودراهم، فهو كقوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9]. وإنما خص الذهب والفضة بالذكر دون سائر الأموال لكونهما أثمان الأشياء. وغالب ما يكنز وإن كان غيرهما له حكمهما في تحريم الكنز، قوله: {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} هو خبر الموصول، وهو من باب التهكم بهم كما في قوله: تحية بينهم ضرب وجيع. وقيل: إن البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة لتأثيره في القلب، سواء كان من الفرح أو من الغمّ. ومعنى {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ} أن النار توقد عليها وهي ذات حمى وحرّ شديد. ولو قال يوم تحمي: أي الكنوز لم يعط هذا المعنى. فجعل الإحماء للنار مبالغة. ثم حذف النار وأسند الفعل إلى الجارّ، كما تقول رفعت القصة إلى الأمير، فإن لم تذكر القصة قلت رفع إلى الأمير، وقرأ ابن عامر «تحمى» بالمثناة الفوقية، وقرأ أبو حيوة «فيكوى» بالتحتية. وخص الجباه، والجنوب والظهور؛ لكون التألم بكيها أشدّ لما في داخلها من الأعضاء الشريفة. وقيل: ليكون الكيّ في الجهات الأربع: من قدّام، وخلف، وعن يمين، وعن يسار. وقيل: لأن الجمال: في الوجه، والقوّة: في الظهر والجنبين، والإنسان إنما يطلب المال للجمال والقوّة. وقيل غير ذلك مما لا يخلو عن تكلف. قوله: {هذا مَا كَنَزْتُمْ لأنفُسِكُمْ} أي: يقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم: أي كنزتموه لتنفتعوا به، فهذا نفعه على طريقة التهكم والتوبيخ {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} ما: مصدرية أو موصولة: أي ذوقوا وباله، وسوء عاقبته، وقبح مغبته، وشؤم فائدته. وقد أخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، في قوله: {إِنَّ كَثِيراً مّنَ الأحبار والرهبان} يعني: علماء اليهود والنصارى {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل} والباطل: كتب كتبوها لم ينزلها الله فأكلوا بها أموال الناس، وذلك قول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله} [البقرة: 79]. وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} قال: هؤلاء الذين لا يؤدّون الزكاة من أموالهم، وكل ما لا تؤدي زكاته كان على ظهر الأرض أو في بطنها فهو كنز، وكل مال أدّيت زكاته، فليس بكنز، كان على ظهر الأرض أو في بطنها. وأخرجه عنه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وأبو الشيخ، من وجه آخر. وأخرج مالك، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عمر، نحوه. وأخرج ابن مردويه، عنه، نحوه مرفوعاً. وأخرج ابن عديّ، والخطيب عن جابر، نحوه مرفوعاً أيضاً. وأخرجه ابن أبي شيبة، عنه، موقوفاً. وأخرج أحمد في الزهد، والبخاري، وابن ماجه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عمر، في الآية قال: إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة جعلها الله طهرة للأموال، ثم قال: ما أبالي لو كان عندي مثل أحد ذهباً أعلم عدده وأزكيه، وأعمل فيه بطاعات الله؟ وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو الشيخ، عن عمر بن الخطاب قال: ليس بكنز ما أدّى زكاته. وأخرج ابن مردويه، والبيهقي عن أمّ سلمة، مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة، في مسنده، وأبو داود، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} كبر ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيع أحد منا لولده ما لا يبقى بعده، فقال عمر: أنا أفرج عنكم، فانطلق عمر واتبعه ثوبان فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبيّ الله، إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية، فقال: «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم»، فكبر عمر، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته» وقد أخرجه أحمد، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، عن سالم بن أبي الجعد من غير وجه عن ثوبان. وحكى البخاري أن سالماً لم يسمعه من ثوبان. وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} قال: هم أهل الكتاب، وقال: هي خاصة وعامة. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عليّ بن أبي طالب، قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة وما فوقها كنز. وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، عن أبي أمامة قال: حلية السيوف من الكنوز ما أحدّثكم إلا ما سمعت. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عراك بن مالك، وعمر بن عبد العزيز، أنهما قالا في قوله: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} إنها نسختها الآية الأخرى: {خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً} [التوبة: 103] الآية. وأخرج البخاري ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا جعل لها يوم القيامة صفائح، ثم أحمى عليها في نار جهنم، ثم يكوى بها جنباه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين الناس فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار» وأخرج ابن أبي شيبة، والبخاري، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن زيد بن وهب، قال: مررت على أبي ذرّ بالربذة، فقلت: ما أنزلك بهذه الأرض؟ فقال: كنا بالشأم فقرأت {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} الآية، فقال معاوية: ما هذه فينا، ما هذه إلا في أهل الكتاب، قلت: إنها لفينا وفيهم.
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)} قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً} هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر نوع آخر من قبائح الكفار وذلك أن الله سبحانه لما حكم في كل وقت بحكم خاص، غيروا تلك الأوقات بالنسيء والكبيسة، فأخبرنا الله بما هو حكمه فقال: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور} أي: عدد شهور السنة عند الله في حكمه وقضائه وحكمته: اثنا عشر شهراً. قوله: {فِى كتاب الله} أي: فيما أثبته في كتابه. قال أبو علي الفارسي: لا يجوز أن يتعلق في {في كتاب الله} بقوله: {عدّة الشهور}، للفصل بالأجنبي وهو الخبر: أعني {اثنا عشر شهراً}؛ فقوله: {في كتاب الله}، وقوله: {يوم خلق} بدل من قوله: {عند الله}، والتقدير: إن عدّة الشهور عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض. وفائدة الإبدالين تقرير الكلام في الأذهان؛ لأنه يعلم منه أن ذلك العدد واجب عند الله في كتاب الله، وثابت في علمه في أوّل ما خلق الله العالم. ويجوز أن يكون {في كتاب الله} صفة {اثنا عشر}: أي اثنا عشر مثبتة في كتاب الله، وهو اللوح المحفوظ. وفي هذه الآية بيان أن الله سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على هذا الترتيب المعروف يوم خلق السموات والأرض، وأن هذا هو الذي جاءت به الأنبياء ونزلت به الكتب. وأنه لا اعتبار بما عند العجم، والروم، والقبط، من الشهور التي يصطلحون عليها ويجعلون بعضها ثلاثين يوماً، وبعضها أكثر، وبعضها أقلّ. قوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} هي: ذي القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب: ثلاثة سرد، وواحد فرد؛ كما ورد بيان ذلك في السنة المطهرة. قوله: {ذلك الدين القيم} أي: كون هذه الشهور كذلك، ومنها أربعة حرم هو: الدين المستقيم، والحساب الصحيح، والعدد المستوفى. قوله {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} أي في هذه الأشهر الحرم بإيقاع القتال فيها والهتك لحرمتها، وقيل: إن الضمير يرجع إلى الشهور كلها الحرم وغيرها، وإن الله نهى عن الظلم فيها، والأوّل: أولى. وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنّ تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ لهذه الآية، ولقوله: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام} [المائدة: 2] أولقوله: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} الآية. وقد ذهب جماعة آخرون إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بآية السيف. ويجاب عنه بأن الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم كما في الآية المذكورة، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم. كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه. وأما ما استدلوا به من أنه صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو: ذو القعدة، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، فقد أجيب عنه أنه لم يبتد محاصرتهم في ذي القعدة بل في شوّال، والمحرّم إنما هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمامه، وبهذا يحصل الجمع. قوله: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً} أي جميعاً، وهو مصدر في موضع الحال. قال الزجاج: مثل هذا من المصادر كعامة وخاصة لا يثنى ولا يجمع. {كَمَا يقاتلونكم كَافَّةً} أي جميعاً، وفيه دليل على وجوب قتال المشركين، وأنه فرض على الأعيان إن لم يقم به البعض {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} أي: ينصرهم ويثبتهم، ومن كان الله معه فهو الغالب، وله العاقبة والغلبة. قوله: {إِنَّمَا النسئ زِيَادَةٌ فِى الكفر} قرأ نافع في رواية ورش عنه «النسيّ» بياء مشدّدة بدون همز. وقرأ الباقون بياء بعدها همزة. قال النحاس: ولم يرو أحد عن نافع هذه القراءة إلا ورش وحده، وهو مشتق من نسأه، وأنسأه: إذا أخره، حكى ذلك الكسائي. قال الجوهري: النسيء فعيل بمعنى مفعول من قولك: نسأت الشيء فهو منسوء: إذا أخرته، ثم تحوّل منسوء إلى نسيء كما تحوّل مقتول إلى قتيل. قال ابن جرير: في النسيء بالهمزة معنى الزيادة يقال: نسأ ينسأ: إذا زاد، قال: ولا يكون بترك الهمزة إلا من النسيان، كما قال تعالى: {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، وردّ على نافع قراءته. وكانت العرب تحرّم القتال في الأشهر الحرم المذكورة، فإذا احتاجوا إلى القتال فيها قاتلوا فيها وحرّموا غيرها. فإذا قاتلوا في المحرّم، حرّموا بدله شهر صفر، وهكذا في غيره. وكان الذي يحملهم على هذا: أن كثيراً منهم إنما كانوا يعيشون بالغارة على بعضم البعض، ونهب ما يمكنهم نهبه من أموال من يغيرون عليه، ويقع بينهم بسبب ذلك القتال، وكانت الأشهر الثلاثة المسرودة يضرّ بهم تواليها وتشتدّ حاجتهم وتعظم فاقتهم. فيحللون بعضها ويحرّمون مكانه بقدره من غير الأشهر الحرم، فهذا هو معنى النسيء الذي كانوا يفعلونه. وقد وقع الخلاف في أوّل من فعل ذلك، فقيل: هو رجل من بني كنانة يقال له حذيفة بن عتيد. ويلقب القلمس، وإليه يشير الكميت بقوله: ألسنا الناشئين على معد *** شهور الحلّ نجعلها حراما وفيه يقول قائلهم: ومنا ناسيء الشهر القلمس *** وقيل: هو عمرو بن لحيّ، وقيل: هو نعيم بن ثعلبة من بني كنانة، وسمى الله سبحانه النسيء زيادة في الكفر؛ لأنه نوع من أنواع كفرهم، ومعصية من معاصيهم المنضمة إلى كفرهم بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر. قوله: {يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ} قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وابن عامر «يضلّ» على البناء للمعلوم. وقرأ الكوفيون على البناء للمجهول. ومعنى القراءة الأولى: أن الكفار يضلون بما يفعلونه من النسيء، ومعنى القراءة الثانية، أن الذي سنّ لهم ذلك يجعلهم ضالين بهذه السنة السيئة، وقد اختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار القراءة الثانية أبو عبيد، وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب " يضل " بضم الياء وكسر الضاد على أن فاعله الموصول، ومفعوله محذوف. ويجوز أن يكون فاعله هو الله سبحانه، ومفعوله الموصول. وقرئ بفتح الياء والضاد من ضلّ يضلّ. وقرئ «نضلّ» بالنون. قوله: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا} الضمير راجع إلى النسيء: أي يحلون النسيء عاماً ويحرّمونه عاماً، أو إلى الشهر الذي يؤخرونه ويقاتلون فيه، أي يحلونه عاماً بإبداله بشهر آخر من شهور الحل، ويحرّمون عاماً، أي يحافظون عليه فلا يحلون فيه القتال، بل يبقونه على حرمته. قوله: {لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} أي: لكي يواطئوا، والمواطأة: الموافقة، يقال: تواطأ القوم على كذا: أي توافقوا عليه واجتمعوا. والمعنى: إنهم لم يحلوا شهراً إلا حرّموا شهراً لتبقى الأشهر الحرم أربعة، قال قطرب: معناه عمدوا إلى صفر فزادوه في الأشهر الحرم، وقرنوه بالمحرّم في التحريم. وكذا قال الطبري. قوله: {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله} أي: من الأشهر الحرم التي أبدلوها بغيرها {زُيّنَ لَهُمْ سُوء أعمالهم} أي: زين لهم الشيطان الأعمال السيئة التي يعملونها، ومن جملتها النسيء. وقرئ على البناء للفاعل. {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} أي: المصرّين على كفرهم المستمرين عليه فلا يهديهم هداية توصلهم إلى المطلوب، وأما الهداية بمعنى الدلالة على الحق والإرشاد اليه فقد نصبها الله سبحانه لجميع عباده. وقد أخرج البخاري ومسلم، وغيرهما، من حديث أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " وأخرج نحوه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، من حديث ابن عمر. وأخرج نحوه ابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه، من حديث ابن عباس. وأخرج نحوه أيضاً البزار، وابن جرير، وابن مردويه، من حديث أبي هريرة. وأخرجه أحمد، وابن مردويه، من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه مرفوعاً مطوّلاً. وأخرج سعيد بن منصور، وابن مردويه، عن ابن عباس {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} قال: المحرّم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة. وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك قال: إنما سمين حرماً لئلا يكون فيهنّ حرب. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كتاب الله} ثم اختصّ من ذلك أربعة أشهر فجعلهنّ حرماً، وعظم حرماتهنّ، وجعل الدين فيهنّ أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} قال: في كلهنّ {وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً} يقول جميعاً. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مقاتل، في قوله: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً} قال: نسخت هذه الآية كل آية فيها رخصة. وأخرج الطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال: كانت العرب يحلون عاماً شهراً وعاماً شهرين، ولا يصيبون الحج إلا في كل سنة، وعشرين سنة مرة، وهي النسيء الذي ذكره الله في كتابه، فلما كان عام حجّ أبو بكر بالناس، وافق ذلك العام، فسماه الله الحجّ الأكبر، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل، واستقبل الناس الأهلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عمر، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة فقال: «إنما النسيء من الشيطان زيادة في الكفر، يضلّ به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرّمونه عاماً، فكانوا يحرّمون المحرّم عاماً ويستحلون صفر، ويحرّمون صفر عاماً ويستحلون المحرّم، وهي: النسيء» وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، قال: كان جنادة بن عوف الكناني يوافي الموسم كل عام، وكان يكنى أبا ثمامة، فينادي ألا إن أبا ثمامة لا يخاب ولا يعاب، ألا وإن صفر الأوّل العام حلال، فيحله للناس، فيحرّم صفر عاماً، ويحرّم المحرّم عاماً. فذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا النسئ زِيَادَةٌ فِى الكفر} الآية. وأخرج ابن أبي حاتم، عنه، في الآية قال: المحرّم كانوا يسمونه صفر، وصفر يقولون: صفران الأوّل والآخر، يحلّ لهم مرّة الأوّل، ومرّة الآخر. وأخرج ابن مردويه، عنه، قال: كانت النساءة حي من بني مالك من كنانة من بني فقيم، فكان آخرهم رجلاً يقال له: القلمس، وهو الذي أنسأ المحرم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)} قوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ} لما شرح معايب أولئك الكفار عاد إلى ترغيب المؤمنين في قتالهم، والاستفهام في {مَا لَكُمْ} للإنكار والتوبيخ: أي، أيّ شيء يمنعكم عن ذلك، ولا خلاف أن هذه الآية نزلت عتاباً لمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام، والنفر: هو الانتقال بسرعة من مكان إلى مكان، لأمر يحدث. قوله: {اثاقلتم إِلَى الأرض} أصله تثاقلتم، أدغمت التاء في الثاء لقربها منها، وجيء بألف الوصل ليتوصل بها إلى النطق بالساكن، ومثله: ادّاركوا، واطيرتم، واطيروا، وأنشد الكسائي: توالى الضجيع إذا ما اشتاقها حضرا *** عذب المذاق إذا ما اتابع القبل وقرأ الأعمش «تثاقلتم» على الأصل، ومعناه: تباطأتم، وعدى ب {إلى} لتضمنه معنى الميل والإخلاد. وقيل: معناه: ملتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها وقرئ: {اثاقلتم} على الاستفهام، ومعناه: التوبيخ، والعامل في الظرف «ما» في {مَالَكُمْ} من معنى الفعل، كأنه قيل: ما يمنعكم، أو ما تصنعون إذا قيل لكم؟ و{إِلَى الأرض} متعلق ب {اثاقلتم} وكما مرّ. قوله: {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا} أي: بنعيمها بدلاً من الآخرة كقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَئِكَةً فِى الأرض يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60] أي بدلاً منكم، ومثله قول الشاعر: قلبت لنا من ماء زمزم شربة *** مبردة باتت على طهيان أي بدلاً من ماء زمزم، والطهيان: عود ينصب في ناحية الدار للهواء يعلق عليه الماء ليبرد، ومعنى: {الآخرة} أي في جنب الآخرة، وفي مقابلتها {إِلاَّ قَلِيلٌ} أي: إلا متاع حقير لا يعبأ به، ويجوز أن يراد بالقليل العدم، إذ لا نسبة للمتناهي الزائل إلى غير المتناهي الباقي، والظاهر: أن هذا التثاقل لم يصدر من الكل، إذ من البعيد أن يطبقوا جميعاً على التباطؤ والتثاقل، وإنما هو من باب نسبة ما يقع من البعض إلى الكل، وهو كثير شائع. قوله: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ} هذا تهديد شديد، ووعيد موكد لمن ترك النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم {يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي: يهلككم بعذاب شديد مؤلم، قيل: في الدنيا فقط، وقيل: هو أعم من ذلك. قوله: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} أي: يجعل لرسله بدلاً منكم ممن لا يتباطأ عند حاجتهم إليهم. واختلف في هؤلاء القوم من هم؟ فقيل أهل اليمن، وقيل أهل فارس، ولا وجه للتعين بدون دليل. قوله: {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا} معطوف على {يَسْتَبْدِلْ}، والضمير قيل: لله، وقيل: للنبي صلى الله عليه وسلم: أي ولا تضرّوا الله بترك امتثال أمره بالنفير شيئاً، أو لا تضرّوا رسول الله بترك نصره والنفير معه شيئاً {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} ومن جملة مقدوراته تعذيبكم والاستبدال بكم. قوله: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} أي: إن تركتم نصره فالله متكفل به، فقد نصره في مواطن القلة، وأظهره على عدوه بالغلبة والقهر، أو فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد وقت إخراج الذين كفروا له حال كونه {ثَانِيَ اثنين} أي: أحد اثنين، وهما: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقرئ بسكون الياء. قال ابن جني: حكاها أبو عمرو بن العلاء، ووجهها أن تسكن الياء تشبيهاً لها بالألف. قال ابن عطية: فهي كقراءة الحسن ما بقي من الربا، وكقول جرير: هو الخليفة فارضوا ما رضيه لكم *** ماضي العزيمة ما في حكمه جنف قوله: {إِذْ هُمَا فِى الغار} بدل من {إِذْ أَخْرَجَهُ} بدل بعض، والغار: ثقب في الجبل المسمى ثوراً، وهو: المشهور بغار ثور، وهو: جبل قريب من مكة، وقصة خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر ودخولهما الغار مشهورة مذكورة في كتب السير والحديث. قوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} بدل ثان: أي وقت قوله لأبي بكر: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} أي: دع الحزن، فإن الله بنصره وعونه وتأييده معنا، ومن كان الله معه فلن يغلب، ومن لا يغلب فيحق له أن لا يحزن. قوله: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} السكينة: تسكين جأشه وتأمينه حتى ذهب روعه، وحصل له الأمن، على أن الضمير في {عَلَيْهِ} لأبي بكر. وقيل: هو للنبي صلى الله عليه وسلم، ويكون المراد بالسكينة النازلة عليه: عصمته عن حصول سبب من أسباب الخوف له، ويؤيد كون الضمير في {عَلَيْهِ} للنبي صلى الله عليه وسلم الضمير في {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} فإنه للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه المؤيد بهذه الجنود التي هي الملائكة، كما كان في يوم بدر. وقيل: إنه لا محذور في رجوع الضمير من {عَلَيْهِ} إلى أبي بكر، ومن {وَأَيَّدَهُ} إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك كثير في القرآن، وفي كلام العرب {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى} أي: كلمة الشرك، وهي دعوتهم إليه. ونداؤهم للأصنام {وَكَلِمَةُ الله هِىَ العليا} قرأ الأعمش، ويعقوب بنصب «كلمة» حملاً على جعل، وقرأ الباقون برفعها على الاستئناف. وقد ضعف قراءة النصب الفراء، وأبو حاتم، وفي ضمير الفصل، أعني {هِىَ} تأكيد لفضل كلمته في العلوّ، وأنها المختصة به دون غيرها، وكلمة الله هي كلمة التوحيد، والدعوة إلى الإسلام {والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ} أي: غالب قاهر لا يفعل إلا ما فيه حكمة وصواب. ثم لما توعد من لم ينفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم وضرب له من الأمثال ما ذكره عقبه بالأمر الجزم فقال: {انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً} أي: حال كونكم خفافاً وثقالاً، قيل المراد: منفردين أو مجتمعين. وقيل: نشاطاً وغير نشاط. وقيل: فقراء وأغنياء. وقيل: شباباً وشيوخاً. وقيل: رجالاً وفرساناً، وقيل: من لا عيال له ومن له عيال، وقيل: من يسبق إلى الحرب كالطلائع، ومن يتأخر كالجيش، وقيل: غير ذلك. ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني، لأن معنى الآية: انفروا خفت عليكم الحركة أو ثقلت. قيل: وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى} [التوبة: 91]، وقيل: الناسخ لها قوله: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ} [النور: 122] الآية. وقيل: هي محكمة وليست بمنسوخة، ويكون إخراج الأعمى والأعرج بقوله: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ} [النور: 61]. وإخراج الضعيف والمريض بقوله: {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى} من باب التخصيص، لا من باب النسخ على فرض دخول هؤلاء تحت قوله: {خِفَافًا وَثِقَالاً} والظاهر: عدم دخولهم تحت العموم. قوله: {وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ الله} فيه الأمر بالجهاد بالأنفس والأموال وإيجابه على العباد، فالفقراء يجاهدون بأنفسهم، والأغنياء بأموالهم وأنفسهم. والجهاد من آكد الفرائض وأعظمها، وهو فرض كفاية مهما كان البعض يقوم بجهاد العدوّ وبدفعه، فإن كان لا يقوم بالعدوّ إلا جميع المسلمين في قطر من الأرض، أو أقطار وجب عليهم ذلك وجوب عين، والإشارة بقوله: {ذلكم} إلى ما تقدّم من الأمر بالنفير، والأمر بالجهاد {خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: خير عظيم في نفسه، وخير: من السكون والدعة {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ذلك، وتعرفون الأشياء الفاضلة وتميزونها عن المفضولة. قوله: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ}. قال الزجاج: لو كان المدعوّ إليه فحذف لدلالة ما تقدّم عليه، والعرض: ما يعرض من منافع الدنيا. والمعنى: غنيمة قريبة غير بعيدة {وَسَفَرًا قَاصِدًا} عطف على ما قبله: أي سفراً متوسطاً بين القرب والبعد، وكل متوسط بين الإفراط والتفريط فهو قاصد {ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} قال أبو عبيدة وغيره: إن الشقة السفر إلى أرض بعيدة، يقال: منه شقة شاقة، قال الجوهري: الشقة بالضم من الثياب، والشقة أيضاً: السفر البعيد، وربما قالوه بالكسر، والمراد بهذا غزوة تبوك، فإنها كانت سفرة بعيدة شاقة. وقرأ عيسى بن عمر «بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة» بكسر العين والشين {وَسَيَحْلِفُونَ بالله} أي: المتخلفون عن غزوة تبوك حال كونكم قائلين: {لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} أي: لو قدرنا على الخروج ووجدنا ما نحتاج إليه فيه مما لا بدّ منه {لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} هذه الجملة سادّة مسدّ جواب القسم والشرط. قوله: {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} هو بدل من قوله: {سَيَحْلِفُونَ} لأن من حلف كاذباً فقد أهلك نفسه أو يكون حالاً: أي مهلكين أنفسهم موقعين لها موقع الهلاك {والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون} في حلفهم الذي سيحلفون به لكم. وقد أخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {ياأيها الذين ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا} الآية، قال: هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح، وحين أمرهم بالنفير في الصيف وحين خرفت النخل وطابت الثمار، واشتهوا الظلال، وشق عليهم المخرج، فأنزل الله: {انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً}. وأخرج أبو داود، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس، في قوله: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر حياً من أحياء العرب، فتثاقلوا عنه، فأنزل الله هذه الآية، فأمسك عنهم المطر فكان ذلك عذابهم. وأخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة، قال: لم نزلت: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، وقد كان تخلف عنه أناس في البدو يفقهون قومهم، فقال المؤمنون: قد بقي ناس في البوادي، وقالوا هلك أصحاب البوادي، فنزلت: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً}. وأخرج أبو داود، وابن أبي حاتم، والنحاس، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس، في قوله: {إِلاَّ تَنفِرُواْ} الآية قال: نسختها: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً}. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} قال: ذكر ما كان من أوّل شأنه حين بعث، يقول: فأنا فاعل ذلك به، وناصره كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين. وأخرج أبو نعيم، والبيهقي في الدلائل، عن ابن شهاب وعروة، أنهم ركبوا في كل وجه يعني المشركين يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم، وبعثوا إلى أهل المياه يأمرونهم ويجعلون لهم الحمل العظيم، وأتوا على ثور الجبل الذي فيه الغار، والذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى طلعوا فوقه، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أصواتهم، فأشفق أبو بكر، وأقبل عليه الهمّ والخوف، فعند ذلك يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت عليه السكينة من الله، {فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} الآية. وأخرج ابن شاهين، وابن مردويه، وابن عساكر، عن حبشي ابن جنادة، قال أبو بكر: يا رسول الله، لو أن أحداً من المشركين رفع قدمه لأبصرنا، فقال: «يا أبا بكر، لا تحزن إن الله معنا» وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، عن الزهري، في قوله: {إذ هُمَا فِى الغار} قال: هو الغار الذي في الجبل الذي يسمى ثوراً. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر في تاريخه، عن ابن عباس، في قوله: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} قال: على أبي بكر لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم تزل معه السكينة. وأخرج ابن مردويه، عن أنس، قال: دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر غار حراء، فقال أبو بكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدهم يبصر موضع قدمه لأبصرني وإياك، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما يا أبا بكر؟ إن الله أنزل سكينته عليك وأيدني بجنود لم يروها» وأخرج الخطيب في تاريخه، عن حبيب بن أبي ثابت {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} قال: على أبي بكر، فأما النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد كانت عليه السكينة. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس، في قوله: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى} قال: هي الشرك بالله: {وَكَلِمَةُ الله هِىَ العليا} قال: لا إله إلا الله. وأخرج الفريابي، وأبو الشيخ، عن أبي الضحى قال: أوّل ما أنزل من براءة: {انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً} ثم نزل أوّلها وآخرها. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن أبي مالك، نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {خِفَافًا وَثِقَالاً} قال: نشاطاً وغير نشاط. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الحكم في الآية قال: مشاغيل وغير مشاغيل. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحسن، قال: في العسر واليسر. وأخرج ابن المذر، عن زيد ابن أسلم، قال: فتياناً وكهولاً. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن عكرمة، قال: شباباً وشيوخاً. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، قال: قالوا: إن فينا الثقيل، وذا الحاجة، والضيعة، والشغل فأنزل الله: {انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً} وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا خفافاً وثقالاً، وعلى ما كان منهم. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ قال: جاء رجل زعموا أنه المقداد، وكان عظيماً سميناً، فشكا إليه وسأله أن يأذن له فأبى، فنزلت: {انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً} فلما نزلت هذه الآية اشتدّ على الناس شأنها فنسخها الله، فقال: {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى} [التوبة: 91] الآية. وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: ألا تغزو بني الأصفر لعلك أن تصيب ابنة عظيم الروم؟ فقال رجلان: قد علمت يا رسول الله، أن النساء فتنة فلا تفتنا بهنّ فأذن لنا، فأذن لهما، فلما انطلقنا قال أحدهما: إن هو إلا شحمة لأوّل آكل، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل عليه شيء في ذلك، فلما كان ببعض الطريق نزل عليه وهو على بعض المناة {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ} ونزل عليه: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} ونزل عليه: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} [التوبة: 45] ونزل عليه: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [التوبة: 95]. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} قال: غنيمة قريبة، {ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} قال: المسير. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة، في قوله: {والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون} قال: لقد كانوا يستطيعون الخروج ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم، وزهادة في الجهاد.
|